على إثر تخصصى فى طب العيون وعودتى من أوروبا - فى إبان الحرب
الأخيرة , وكانت أزمة المساكن قد إشتدت - أخذت أبحث لنفسى عن
شقة فى موضع مناسب تصلح كعيادة لى , وأخرى قريبة منها , كى
أتخذها مسكنا . وأخيرا عرفنى أحد أصدقائى بمحام كهل يملك" فيلا "
فى الجيزة مكونة من جناحين , يقطن هو وأسرته جناحا منها فقط - بعد
أن توفيت زوجته منذ عهد قريب - ويرغب فى تأجير الجناح الثانى ...
فلما عرف الرجل أننى شاب " أعزب " , أظهر ترددا ... لكنه وافق
فى نهاية الأمر , تحت إلحاح صديقى , لا سيما بعد أن أعانتنى المصادفة
فاكتشف - خلال الحديث - صلة زمالة قديمة بينه وبين والدى , رحمه
الله .
واضطررت لأن أقنع بتلك الشقة , فأتخذ منها عيادة ومسكنا فى آن واحد
وبمرور الأيام توثقت العلاقة بينى وبين " محسن بك " - وكان هذا
إسمه - خصوصا بعد أن أظهرت التجربة لى أنه , فوق نبل أخلاقه ,
" محدث " من الطراز الممتاز ... فكنت أقضى الأمسية معه أحيانا بعد
فراغى من العيادة , نتجاذب الحديث ونسمر ... سواء فى شقته أو شقتى
وأحيانا نتعشى معا , ثم نقضى شطرا من السهرة فى لعبة الشطرنج
التى كان من هواتها البارعين , فعلمنى إياها ....
ومع مضى الزمن أحسست أن الرجل قد تعلق بى , وبات يعتبرنى كإبن
له , لا سيما أن الأقدار قد حرمته من البنين , فلم ترزقه إلا بإبنتين ,
إحداهما كانت فى السابعة من عمرها , والأخرى فى الثالثة عشرة ..
وكانت الكبرى " ليلى " شديدة الشغف بالمطالعة , فكانت تجيئنى أحيانا
لتستعير - أو ترد - مجلة أو كتابا ... أو لتقلب مجموعة من المجلات
القديمة المجلدة التى تزخر بها مكتبتى ..... فكنت أتركها منفردة فى
غرفة مكتبى وأتفرغ لشئون مرضاى , أو أجلس معها قليلا بعد موعد
العيادة لكى أرشدها إلى ما يناسبها مطالعته , وما يعالج حالتها النفسية
بالذات , فقد كانت أميل إلى الكآبة والوجوم , ( أو من ذوات المزاج
" السوداوى " كما يقول علماء النفس ) , ففسرت ذلك بأنه ناتج من
حساسيتها الشديدة وشعورها - المبالغ - فيه بضمور جسمها , وضآلة
نصيبها من جمال الوجه , وفتنة الأنوثة الباكرة ... وإن كان وجهها
الحزين " المعبر " , وعيناها الساهمتان , قد أضفت عليها لونا خاصا
من الجمال " النفسى " أعجبنى , وأثار فى نوعا من الإشفاق عليها
والإهتمام بأمرها .
... ولحظت هى منى ذلك فبدأت تتبسط معى , إلى حد إبداء رأيها فى
إنتقاء ثيابى , ولون رباط الرقبة الذى أرتديه .. وفى الليالى التى كنت
أقضى فيها السهرة مع أبيها , بين حين وآخر , كانت تدخل لتحضر له
شيئا طلبه , أو تسأله فى أمر , فتنتهز الفرصة وتبقى معنا فى
" الصالون " بعض الوقت .. حتى ينبهها أبوها إلى أن ساعة النوم
قد حانت , فيتورد وجهها خجلا من معاملته إياها كطفلة, ثم تنصرف
مكرهة وهى تتعثر فى مشيتها , بعد أن تتبادل ووالدها قبلة المساء ...
وجاء يوم عيد ميلادها , الرابع عشر , فأقام " محسن بك " لهذه
المناسبة حفلة دعانى إليها و ودعت هى عددا من جاراتها وزميلاتها
ومعلمات مدرستها . وخلال الحفلة أهدتها إحدى صويحباتها دفتر
" أوتوجراف " لجمع التذكارات والإمضاءات , فدارت به علينا كى
يخط كل منا فيه مايعن له ... ولست أدرى أى شيطان أملى على لحظتها
أن أكتب لهل هذه العبارة : " ... وأنت على عتبة الأنوثة , أتمنى لك
النجاة من خطرين: الربيع , والأحلام ! " ... فلم تكد تقرؤها حتى تورد
وجهها , وألم بها إرتباك مفاجىء , حاولت أن تخفيه فزادته المحاولة
وضوحا ... وكان الأثر المباشر لذلك أنها حرصت بقية السهرة على
تجنب الإقتراب منى , أو ترك بصرها يلتقى ببصرى ....
ولا أدرى لماذا أحسست إزاء مسلكها هذا بشىء من النشوة , أغلب
الظن أنها نشوة الزهو الذى يتملك الرجل دائما كلما أحس أن كلمة أو
نظرة منه قد نفذت إلى قلب عذراء .... على أننى لم ألبث أن شكرت لها
فى نفسى إبتعادها عنى , فقد أتاحت لى بذلك فرصة التحدث مع حسناء
رائعة كانت ليلى قد عرفتنى بها فى بداية الحفلة , بوصف أنها
" معلمة البيانو " فى مدرستها , فلم أشعر إلا وقد إنقضت السهرة
وأنا غارق فى نشوة فتنة " عايدة " وعذوبة شخصيتها , وليس فى
ذهنى غير شغل واحد , هو تدبير الحيلة التى تمكننى من أن ألقاها
مرة أخرى !
لكن حيرتى لم تطل , فقد تكفلت ليلى بإيجاد الحل : لم تكد الغريرة ترانى
أنصت بإعجاب إلى مقطوعة عزفتها عايدة فى تلك الليلة , وتأنس منى
ميلا لتذوق الموسيقى , حتى رأيتها تهرع إلى أبيها فى اليوم التالى
طالبة موافقته على أن تتلقى دروسا فى البيانو ... على يد أبلة عايدة.
ياللمسكينة.... كيف خانتها أنوثتها إلى هذا الحد , فلم تدرك مغزى
تحمسى يومئذ لفكرتها تلك , أو الدافع الذى جعلنى أحرص فيما بعد
على " ملازمتها " فى الغالب كلما حضرت عايدة لتعطيها درسا, مفسرا
ذلك بفرط شغفى بالموسيقى , والبيانو بالذات ؟! ثم كيف خانتها فطنة
الأنثى الفطرية فلم تلحظ النظرات الناعمة التى صرت أتبادلها مع عايدة
- والتى كانت تزداد نعومة كل يوم ! - واللمسات الخفيفة التى كانت
تلتقى فيها أصابعنا , كأنما عفوا , فوق أصابع البيانو ...
والكلمات الرقيقة التى حرص كلانا على إخفاء معانيها الملتوية فى
قالب من ألفاظ الكياسة ومقتضيات " الإيتيكيت " ؟؟ وكيف أمكن أن
يصم قلب الفتاة المرهف عن إلتقاط موجات العاطفة الجارفة التى سرت
بين قلب عايدة وقلبى , وقد غدا كلاهما جهازا نابضا للإرسال والإستقبال
فى آن معا ...؟
بل كيف أمكن أن يعمى قلبى أنا عن أن يلحظ أعراض العلة الخبيثة
التى كانت تنسج خيوطها حول قلب الصبية طوال تلك الأشهر , والهوى
الخطير الذى كانت المسكينة سادرة فيه ؟
إنى أتبين الآن الجواب عن ذلك كله : لقد غفل كلانا عن إدراك هذا
التشابك المعقد لسبب واحد بسيط , هو أن كلانا كان طائرا فى سمائه
كلانا كان يبكى على ليلاه , فلم ينتبه لشىء !
حتى أقبل الربيـــــــع .....
**************************************************
_________________